اما الحديث قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من حلف بالله؛ فليصدق، ومن حلف له بالله، فليرض).الحديث جيد هنا أمران:
الأمر الأول: للحالف؛ فقد أُمر أن يكون صادقًا، والصدق: هو الإخبار بما يطابق الواقع، وضده الكذب، وهو: الإخبار بما يخالف الواقع، فقوله " من حلف بالله، فليصدق "، أي: فليكن صادقًا في يمينه، وهل يشترط أن يكون مطابقًا للواقع أو يكفي الظن؟
الجواب: يكفي الظن؛ فله أن يحلف على ما يغلب على ظنه؛ كقول الرجل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني. فأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
الثاني: للمحلوف له، فقد أمر أن يرضى بيمين الحالف له.
فإذا قرنت هذين الأمرين بعضهما ببعض، فإن الأمر الثاني يُنَزّل على ما إذا كان الحالف صادقًا؛ لأن الحديث جمع أمرين: أمرًا موجهًا للحالف، وأمرًا موجها للمحلوف له، فإذا كان الحالف صادقًا؛ وجب على المحلوف له الرضى.
فإن قيل: إن كان صادقًا فإننا نصدقه وإن لم يحلف؟
أُجيب: أن اليمين تزيده توكيدًا.
قوله: "ومن " لم يرض، فليس من الله ". أي: من لم يرض بالحلف بالله إذا حلف له؛ فليس من الله، وهذا تبرؤ منه يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب،
لنعلم أن من لم يقنع بالحلف بالله إما أن يكون ذلك من الناحية الشرعية، وإما أن يكون ذلك من الناحية الحسية. أما من الناحية الشرعية فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف، فإنه يجب الرضا بهذا الحكم الشرعي. وأما من الناحية الحسية فلا يخلو، إما أن يكون الحالف موضع صدق وثقة فإنك ترضى بيمينه، وإما أن لا يكون كذلك فلا حرج عليك أن ترفض الرضا بيمينه، ولهذا لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في قصة عبد الله بن سهل حويصة ومحيصة قال: ( تبرؤكم يهود بخمسين يمينا، قالوا: كيف نرضى يا رسول الله بيمين يهود؟ أو قالوا لا نرضى بذلك ) فأقرهم النبي عليه الصلاة والسلام. فالحاصل أنه إذا كان الحالف محل ثقة وأمانة فإن المطلوب منك أن ترضى بذلك، أما إذا لم يكن محل ثقة وأمانة فلا حرج عليك أن ترفض.
فصار الحلف بالله له جهتان، الجهة الأولى: أن يكون في محاكمة بحيث تتوجه اليمين على من أنكر، فيجب الرضا، بالحكم الشرعي، لأنه ليس له إلا يمينه فقط.
مثاله: ادعى شخص على آخر بمئة درهم، فتخاصما إلى القاضي، فقال القاضي للمدعي: هل لك بينة؟ قال: لا، إذن يوجه اليمين إلى من؟ إلى المدعى عليه بطلب الخصم، إذا قال: ترضى بيمينه؟ قال: أرضى بيمينه فيحلف، فإذا حلف وجب الرضا بذلك، وما الرضا من أجل أنه حلف، ولكن من أجل أن هذا مقتضى الحكم الشرعي، ويكون المدعى عليه حينئذٍ قد انتهى من الخصومة وبرئ منها.
أما الجهة الثانية فأن يكون من الناحية الحسية، فهذه إن كان الحالف محل ثقة فإنك ترضى بيمينه، وإن لم يكن كذلك فلا حرج عليك أن ترفض يمينه، وليس رفضك ليمينه هنا من أجل عدم تعظيم الله، ولكن من أجل أن الحالف ليس بثقة فقد يحلف وهو كاذب.
واما خارج القضاء بالنسبة للمحلوف له، فهل يلزمه أن يصدق أم لا؟
المسألة لا تخلو من أحوال خمس:
الأولى: أن يُعلم كذبه؛ فلا أحد يقول: إنه يلزم تصديقه.
الثانية: أن يترجح كذبه؛ فكذلك لا يلزم تصديقه.
الثالثة: أن يتساوي الأمران؛ فهذا يجب تصديقه.
الرابعة: أن يترجح صدقه، فيجب أن يصدق.
الخامسة: أن يعلم صدقه؛ فيجب أن يصدقه.
وهذا في الأمور الحسية، أما الأمور الشرعية في باب التحاكم، كما سبق التفصيل فيجب أن يرضى باليمين ويلتزم بمقتضاها،لأن هذا من باب الرضا بالحكم الشرعي، وهو واجب.